غزة تقطر دماً

غزة… متى تُغلق السماء على الجراح؟

رانية مرجية

رانية مرجية*

منذ أكثر من ثمانية أشهر، و العالم يقف على حافة خرابه الأخلاقي. و منذ أكثر من ثمانية أشهر، يُذبح الأطفال في غزة بلا شفقة، تُهدم البيوت على رؤوس أصحابها، تُمحى الأحياء عن الخارطة، و تُقتلع أرواح بريئة كأنها أوراق شجر في خريف المجازر. لا هدنة تصمد، و لا قرارات دولية تُنفَّذ، و لا إنسانية بقيت على وجه هذا الكوكب إلا ما ندر. فما الذي يحدث في غزة؟ أهي حرب؟ لا. إنها جريمة. إنها الإبادة الجماعية بثوبها العاري أمام العالم، و لا أحد يرف له جفن.

لقد تجاوز العدوان الإسرائيلي على غزة كل الحدود، ليس فقط في عدده المهول من الشهداء و المصابين، بل في نوعيته الوحشية المنهجية: استهداف المستشفيات و المدارس، قصف الكنائس و المساجد، حرمان الأهالي من الماء و الطعام و الدواء، و محاصرة الناس بين الركام و الجوع و الموت. تُقطع الكهرباء عن الحضانات، فتختنق الأطفال، و يُمنع الوقود عن سيارات الإسعاف، فينزف الجرحى حتى آخر قطرة من حياتهم. كل هذا أمام كاميرات العالم، و على مرأى من المؤسسات الدولية التي باتت تصدر بياناتها كمن يكتب نعيًا بلا دموع.

منذ متى أصبحت الأجساد الغزية مستباحة؟ منذ متى صار الألم الفلسطيني خبزًا يوميًا على الشاشات؟ هل اعتاد العالم هذه الهمجية حتى صارت لا تُحرّك فيه ساكنًا؟ أم أن دم الفلسطيني أقل شأنًا في ميزان العدالة الدولية؟ أين ذهبت مواثيق جنيف، و مجلس الأمن، و محكمة الجنايات الدولية؟ لماذا تتحرك تلك المؤسسات فقط عندما يكون القاتل غير “إسرائيلي”؟

غزة ليست فقط مدينة أو جغرافيا محاصرة، إنها اختبارٌ صارخ لإنسانية هذا العالم. و كل يوم تمرّ فيه المجازر من دون محاسبة، هو سقوط أخلاقي لنا جميعًا، نحن الذين نكتب و نرسم و ننشر و نصلي، دون أن نفلح في إيقاف النكبة المتواصلة. إن ما يحدث في غزة ليس نتيجة “صراع”، بل نتيجة استعمار عسكري استيطاني يرى في الفلسطيني عبئًا يجب التخلص منه، و لو بالدوس على أشلاء آلاف الأطفال.

و مع هذا كله، فإن غزة لا تنكسر. نعم، تُدمَّر، لكن لا تُكسر. سكانها يخرجون من بين الركام حاملين حجارة أرواحهم ليبنوا بها مجددًا. النساء في غزة يدفنّ أبناءهن و يواصلن إعداد الخبز لأطفال آخرين. الرجال المبتورة الأطراف يتكئون على ما تبقى من كرامة ليصرخوا: نحن هنا! و المقاتلون في غزة، أيا كان انتماؤهم، باتوا ضمير هذه الأمة، لا لأنهم يطلقون الصواريخ فقط، بل لأنهم يقفون بصدور عارية أمام أعتى آلة قمع في هذا العصر.

أيها العالم المتحضر، متى تُغلق السماء على الجراح؟ متى يتوقف هذا النزيف؟ متى تعود غزة لتتنفس؟ متى يكفّ الإعلام العالمي عن شيطنة الضحية و تبرئة الجلاد؟ و متى يقرر بعض العرب أن فلسطين ليست “قضية للتفاوض”، بل جرح لا يندمل إلا بالحرية؟

ما يحدث في غزة اليوم ليس حدثًا طارئًا، بل لحظة تاريخية سيُسأل عنها كل من صمت أو برّر أو ساوى بين الضحية و الجلاد. و كل شهيد يُدفن هناك، هو شهادة ولادة لوعي جديد، مفاده أن الصمت لم يعد ممكنًا، و أن البكاء وحده لا يكفي.

غزة تنزف، نعم، لكنها تُعرّي العالم أيضًا. و تذكرنا، كل يوم، أن الحق لا يُسترد بالاستجداء، بل بالصمود، و بالكلمة، و بالصوت، و بالنار إذا لزم الأمر.

فمتى تُغلق السماء على الجراح؟

*كاتبة و صحافية فلسطينية من الرملة

رانية مرجية

رانية مرجية من مواليد 1976 فلسطين، عضو رابطة اتحاد كتاب العرب في الانترنت ،عضو الاتحاد العربي للاعلام الألكتروني. حاصلة على درجة بكالوريوس في موضوعي الاعلام وعلم النفس درجة الماجستير في العلوم السياسية والاسلام. * دبلوم في الاخراج المسرحي والتمثيل * دبلوم في الوساطة وفض النزاعات تعمل في مجال الاعلام و ناشطة في مجال حقوق المرأة والمسرح الاخر. وحقوق الانسان. تعمل باحثة في شؤون السياسة والمرأة والدين- الشعر والمقالات المتنوعة وتعمل كموفقة جماهيرية بالوسط العربي الشبابي بالرملة واللد ويافا وبالتوجيه وارشاد المجموعات . كتب واصدارات بالعربية - صدر لها سنة 1995 ديوان شعر بعنوان رسالة الى الطغاة -وسنة 1998 ديوان شعر تحت عنوان الكل يتقيا الحياة وسنة 2008 مدرج الأفق النحيل في المسرح. المسرحيدية العلاجية ' انا قتلتك يما ' وهي من تأليفها وتمثيليها ومن انتاج مسرح السرايا في يافا . نحن نحب الحياة مسرحية من اخراجها وشاركت بالتمثيل ابطالها اطفال متوحدون يارا احمد جورج فاطمة مصطفى الياس ومسرحية العودة حق مقدس وهي من تأليفها واخراجها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *