الرملة واللد ويافا: ثلاثية الجرح الفلسطيني من النكبة إلى معركة البقاء
في صمتهم الصاخب، كتبوا أن الوطن ليس مكانًا نغادره، بل جذورًا نحملها في أقدامنا، و أصواتنا، و دموعنا


رانية مرجية*
مقدمة: مدن لا تُنسى، ومدن لا تنسى
الرملة، اللد، ويافا… ليست مجرد مدن، بل هي جراح مفتوحة في جسد الوطن الفلسطيني، شواهد على النكبة التي لم تنتهِ، و على الصمود الذي لم ينكسر.
هي مدن سُلخت عن ذاتها، و تغيّر وجهها قسرًا، لكنها رغم كل محاولات التهويد و المحو، لا تزال تعيش، و تنبض، و تنطق بالفلسطينية.
هذا البحث ليس حنينًا إلى أطلال، بل قراءة واعية في التاريخ و الواقع، سردٌ لحكاية النكبة المستمرة، و احتفاء بمن لم يرحلوا، بل بقوا ليكونوا الوطن الذي لم يُغادر مكانه.
أولاً: قبل النكبة – مدن تعج بالحياة و الهوية
يافا: عروس فلسطين و بوابة النهضة
يافا، المدينة الساحلية المتربعة على موج البحر، كانت درّة الاقتصاد الفلسطيني، و مهد الصحافة، و مسرح النخبة الثقافية. من “الكرمل” إلى “الدفاع”، من دور السينما إلى الحواري الضاجة، كانت المدينة مزيجًا من العراقة و التجدد.
ميناؤها كان الشريان التجاري لفلسطين، و برتقالها اليَفاوي كان يُصدّر إلى أوروبا و يُحكى عنه كعلامة وطنية.
الرملة واللد: نبض القلب الفلسطيني
الرملة، التي أسّسها الأمويون، كانت مركزًا إداريًا و تاريخيًا، تتميز بتعدد الأديان و الثقافات.
اللد، أرض القديس جرجس، مدينة الكنائس و المساجد، و السكك الحديدية، و الزراعة الوفيرة.
كلتا المدينتين كانتا رمزين للتعايش، و مكانًا تعجّ فيه الحياة و الأسواق و الهوية الفلسطينية العميقة.
ثانيًا: النكبة 1948 – الجريمة الكبرى بحق التاريخ والإنسان
يافا: القصف و الفرار من البحر
في نيسان 1948، تحوّلت يافا إلى ساحة حرب. عصابات الأرغون و الهاجاناه قصفت المدينة بقسوة، لتفرغها من أهلها.
هرب عشرات الآلاف بحرًا نحو غزة و لبنان، بعضهم لم يصل، و من بقي خُزّن في أحياء محروسة و أُعلن غيابه قانونيًا رغم وجوده، بموجب “قانون أملاك الغائبين”.
الرملة واللد: المجزرة و المسيرة الصامتة
في تموز 1948، ضمن عملية “داني”، دخلت قوات الاحتلال المدينتين، و نفّذت مجازر دموية، خصوصًا في مسجد اللد الكبير و الكنيسة.
أُجبر أكثر من 70 ألف فلسطيني على السير مشيًا إلى رام الله، في مسيرة عطش و موت، تاركين بيوتهم و ذكرياتهم تحت فوهات البنادق.
كانت الجريمة كاملة: تطهير عرقي بالصوت والصورة، وبدعم الصمت الدولي.
ثالثًا: ما بعد النكبة – بقاء تحت القيد والتمييز
النكبة لم تنتهِ بل تحوّلت إلى سياسة
بعد العام 1948، فرض الاحتلال نظامًا عسكريًا على من تبقى من السكان:
منع تنقّل،
مصادرة أراضٍ،
عزل مجتمعي،
و تهميش مُمأسس.
ثم جاءت سياسات “التحسين الحضري” كغطاء للتهويد، تحت مسميات براقة.
بيوت العرب تمّت مصادرتها، و الأحياء أعيد تخطيطها لتناسب المستوطن الجديد، أما الفلسطيني الأصلي فبات يُعامل كـ”مشكلة عمرانية”، لا كمالك شرعي.
رابعًا: التمييز العنصري حتى اللحظة
الفلسطينيون في الرملة و اللد و يافا يُواجهون حتى اليوم:
مدارس عربية فقيرة مقارنة بالمدارس اليهودية.
هدم منازل بحجة “البناء غير المرخص” وسط استحالة الحصول على التراخيص.
عنف الشرطة و تواطؤها مع المستوطنين.
تغييب الرواية الفلسطينية من المناهج.
تهميش في الخدمات، في التخطيط، و في الفرص.
و مع ذلك، لم ينكسروا.
خامسًا: من صمود الأفراد إلى صلابة الوجود – نحن الوطن الذي لم يرحل
في الرملة و اللد و يافا، البقاء الفلسطيني لم يكن خيارًا عابرًا، بل موقفًا وجوديًا و رسالة قومية.
هنا، الهوية ليست مجرد انتماء… بل خندق يومي من خنادق المواجهة.
الهوية كفعل مقاومة لا يلين
كل طفل يصرّ على نطق “اللد” باللهجة الأصلية، هو شاعرٌ يقاوم.
كل سيدة تصنع الكعك بعينين ممتلئتين بالماضي، توثق التاريخ بطريقتها.
كل شاب يعزف على عودٍ مكسور في سوق الرملة، يعزف على أوتار الوطن.
الهوية هنا لا تُمارَس فقط بالكلام، بل بالمشي، بالطعام، بالأذان، بالتراتيل، بالشتلات المزروعة في حواكير البيوت القديمة.
صوتٌ لا يُخرس
المساجد تعانق السماء بالأذان.
الكنائس ما زالت مفتوحة للجميع، تفتح أبوابها للسلام، و تُرنّم بالعربية: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام.”
هنا، الدين ليس أداة فصل، بل صرحٌ يُعلن أن هذه الأرض لم و لن تُفرَّغ من أهلها.
ليس بقاءً بل ريادة
الفلسطينيون في هذه المدن لا يعيشون على الهامش، بل يكتبون المركز:
يؤسسون مبادرات ثقافية.
يخرجون أفلامًا قصيرة عن الحنين و الحق.
ينظّمون مهرجانات، و يُحيون الذكرى لا للبكاء، بل لتجديد العهد.
سادسًا: أيار 2021 – هبّة الكرامة… صوتنا من تحت الركام
في هبّة الكرامة، هتف الشباب في اللد و الرملة و يافا: “نحن لسنا جالية، نحن الوطن”.
استشهد موسى حسونة، و واجه الشباب بالصدور العارية عصابات المستوطنين المدججة بالسلاح.
لم تكن انتفاضة غضب فقط، بل لحظة وعي و عودة للهوية الجامعة.
أعادوا تعريف أنفسهم: نحن فلسطينيون في قلب الجغرافيا المسروقة، و لسنا صامتين.
خاتمة: لم نُهزم، بل ننهض في كل حي وشارع
الرملة، اللد، و يافا ليست مجرد مدن نكبت، بل مدن تقود المعركة الأعمق: معركة البقاء بالكرامة.
هم لم يرحلوا، لم يتنازلوا، و لم يصمتوا.
حملوا الجرح، لكنهم لم يسمحوا له أن يُميت صوتهم.
و في صمتهم الصاخب، كتبوا أن الوطن ليس مكانًا نغادره، بل جذورًا نحملها في أقدامنا، و أصواتنا، و دموعنا.
*كاتبة فلسطينية من الرملة