أقلام الوطن

بإعلان لاهاي حققت أمريكا الإحتواء الرابع لأوروبا

د.عادل سمارة
د.عادل سمارة

د. عادل سماره

بعيداً عن تخالف التحليلات عن دور الدولة العميقة أو كون ترامب خروجاً حاداً عن تراث الرئاسات الأمريكية، إلا أنه يسير بطريقة خاصة لحماية مصالح أمريكا كما تراها الدولة العميقة بغض النظر أين تٌخفق طريقته ولماذا.

عُقد مؤتمر الناتو في لاهاي، أنظر التفصيل  في رابط مقال الرفيق سعيد محمد في الأخبار اللبنانية.

و النتيجة المركزية للمؤتمر بعنوان إعلان لاهاي التزام الدول الأعضاء بزيادة إنفاقها الدفاعي و الأمني إلى مستوى 5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035 بعد أن كانت 2% و بعد أن طالب ترامب بذلك في ولايته الأولى ليحقق مطلبه في بداية ولايته الثانية.

و عليه، حقق إعادة تصليب الناتو بمنع التفلُّتات باتجاه خلق قوة أوروبية قادرة على حماية أوروبا من روسيا ، و موافقة الجميع ما عدا إسبانيا.

هل هناك خطر إمبريالي روسي ضد أوروبا؟ غالباً لا، إن لم يكن المطلوب دفاع روسي لمواجهة تسليح أوكرانيا من قبل الناتو للعدوان ضد روسيا.

و لكن عموماً، فكل دولة راسمالية تحمل في أحشائها نفس ذلك الوليد السفاح، الإعتداء على ثروة الآخرين. نُسمي ذلك إمبريالية أو حربا عدوانية …الخ هذا أمر آخر. لكن دولة كبرى مثل روسيا و قدرتها التسليحية اضخم من قدرتها الإقتصادية بالمعنى الإنتاجي و ليس بمعنى غياب الثروات، مثل هذه الدولة يمكن في ظرف ما أن تتحول إلى إمبريالية فهي كانت كذلك قبل انتصار البلاشفة و استلامهم السلطة عام 1917 .

لكن للتحول إلى إمبريالية لا تكفي القوة وحدها و لا الثروة وحدها بل هناك مقومات التحول التي وضعها لينين عام 1916 في كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية و قياسا على ما وضعه لينين قمنا بمناقشة ذلك وخاصة في القياس على كيانات الخليج الإمارات و قطر اللتين تحولتا إلى “إمبريالية” ضد الذات و في خدمة الإمبريالية الأم (انظر عادل سماره Arab’s Regime Arab’s Enemy p.p. 54-67 ).

فالعالم إذن، و الأمة العربية خاصة و طبعاً الصين و روسيا أمام توجه عدواني للأطلسي، بل مواصلة توجهه العدواني عولمياً، رغم المزاعم بأنه في الأساس “للدفاع” عن الدول الأعضاء في الحلف. و بالطبع، لم يحصل أي عدوان على الحلف بل عدوان من الحلف.

و لكن السؤال: هل إعادة تماسك الناتو تعبير عن قوة أمريكا أم ضعفها؟ أم تداخل الأمرين؟

في المقام الأول، تمكنت أمريكا من إعادة إحتواء أوروبا للمرة الرابعة، و لكنه إحتواء خلفه التراجع و القلق الأمريكي بخلاف الإحتواءات الثلاث السابقة التي تمت عبر أمريكا القوية.

بدأ الإحتواء الأول نظراً لخروج أمريكا الرابح الأكبر و المُعافى من تبعات الحرب الإمبريالية الثانية بقليل من الكلفة التي حمل معظمها الإتحاد السوفييتي في إنتصاره على النازية. و تبع تلك الحرب قيام أمريكا بإعادة تقوية أوروبا في مواجهة المد الشيوعي، بخطة مارشال التمويلية لأوروبا لإيقاف أوروبا الراسمالية على قدميها في مواجهة المد الشيوعي شعبياً، إي إصرار امريكا على احتواء أوروبا في مواجهة الإتحاد السوفييتي و هذا نسميه الاحتواء الأول لجعل اوروبا مجرد إمتداد لها في مواجهة آسيا بل العالم ككل و خاصة الوطن العربي. و لم يكن الأمر سهلاً على أمريكا لولا تمكنها من تسويد الدولار عالمياً إثر إتفاق بريتون وودز، لا سيما و أنها بعد الحرب كانت الموقع الإنتاجي الأكبر في العالم حيث كانت حصتها بين 40-50% منه. دعنا نتذكر دائماً أن حجم الإنتاج هو اساس القوة الحقيقية للدول.

واجهت أمريكا، بسبب توسعها العدواني سواء الحرب على فيتنام و نشر مئات القواعد العسكرية في كل العالم، أزمة العجز عن تغطية الدولار بالذهب و حاجتها المتزايدة للضخ الورقي و ترافق هذا مع أزمة أنتهاء حقبة الإزدهار (1945-1963 تقريباً) في الغرب خاصة .

أي كان لا بد لأمريكا أن تتجاوز الغطاء الذهبي بطبع اوراق نقدية دون غطاء ذهبي، تحت ضغط ضرورة الإنفاق الحربي.

و لكن، حتى حينه، لم تكن أمريكا في وضع متدهور مما سمح أو وفر حماية للدولار كونه:

· عملة امريكا

· و سمعتها كدولة عظمى،

· و أقوى قوة اقتصادية و حربية في العالم.

و لأن العديد، إن لم نقل مختلف الدول :

· إما إختزنت و حازت كميات ما أمكنها من الدولارات، فإن رفضها لقرار أمريكا سيجعل دولاراتها بلا قيمة فليس أمامها سوى القبول بالإرهاب الاقتصادي الأمريكي.

· أو/و هي ، أي مختلف الدول، بحاجة للدولار كي تشتري النفط الذي أصبح السند الأقوى لبقاء الدولار عملة قوية لأن تسعير النفط حًصر في الدولار.

كان يجب أن لا تفلت أوروبا عبر الاتحاد الأوروبي من يد أمريكا، و هنا كانت اللعبة الجديدة التي أعادت تطويع أوروبا و لكن بمساعدة الأنظمة العربية النفطية و خاصة السعودية. و عليه، فقد ساهمت انظمة النفط و خاصة السعودية في:

· تقوية الدولار و تغطيته طالما يُباع النفط حصرياً بالدولار،و هذا يعني تغطية الدولاربالنفط،

· تمكين أمريكا من تجديد احتوائها لأوربا. و بالتالي امتصاص أو جذب فوائض العالم؟

أما الإحتواء الأمريكي الثالث لأوروبا فكان على يد الرئيس الأمريكي السابق من الحزب الديمقراطي فكان ب صدمة جون بايدن. كيف؟

انفجرت الفقاعة 2007-2008 وبين 2008 و حتى كوفيد 19 دخل العالم أزمة جديدة لم يتم الخروج منها رغم مزاعم الخروج. في هذه الفترة تم ضخ الأموال في شرايين البنوك تحت شعار هذا اضخم من أن ينهار Too big to fall، و تم تخفيض الفائدة لقرابة الصفر. و مع كوفيد 19 حصل التقعيد أي البقاء في البيوت و الإعتماد على نفقات تدفعها الدولة Lockdown حيث زعمت الدولة في امريكا انها تمول القاعدين و لكن في الحقيقة ذهبت الأموال للمصارف و منها إلى الملاذات الآمنة مما يذكرنا ب نورث فوكس أو قديماً “أهراء روما”.

المهم واصل بنك الإحتياطي الفدرالي ضخ الأموال لتصل الدولة إلى التضخم و ضخ سيولة مالية أكثر مع أزمة الحرب الدفاعية الروسية في أوكرانيا. و هنا صار المشهد على النحو التالي:

· لا بد من لجم التضخم

· و هذا يعني رفع الفائدة لأعلى درجة ممكنة

· لأنه لا بد من تقليص الاستهلاك

· و لكي تمول الدولة الامريكية نفسها فإن رفع معدل الفائدة يغري العالم بضخ الاموال إلى امريكا فتحصل على ما تحتاج الدولة من سيولة بدل أن تضع ضرائب كما يجب على الشركات الكبرى، بل كي تواصل إعفاء الشركات الكبرى و مواصلة تطبيق قانون فرض الضرائب على المداخيل التي حتى 160000 دولار أو ما دون، و بالطبع مواصلة تحمُّل مديونيتها الهائلة وهي قرابة 36 ترليون دولار.

بالمقابل غضبت و احتجت أوروبا لأنها أضطرت لشراء النفط من أمريكا بأسعار أعلى من النفط الروسي المقطوع بفعل أمريكي و لأن بضاعتها و صادراتها لأمريكا قد تراجعت و نفقاتها على الحرب إزدادت و خاصة بسبب:

· ذهاب/رحيل قسم من الاستثمارات الأوروبية إلى أمريكا مع رفع معدل الفائدة

· و قسم إلى الصين و خاصة شركات ألمانية.

و هذا يعني أن راس المال يغادر الوطن حال الأزمة، كما يؤكد القانون الذي اكتشفه ماركس عند ميل معدل الربح للهبوط حيث يلجأ راس المال إلى الانسحاب من مناطق الربح القليل إلى غزو مناطق الربح الأعلى.

و هكذا، فإن تورُّط أوروبا في حرب أوكرانيا و انتهاز امريكا الفرصة باجتذاب الشركات الأوروبية و بيع أوروبا نفطاً أمريكياً بدل الروسي و بسعر أعلى و إصرار أمريكا بايدن على مواصلة الحرب في أوكرانيا و فرض عقوبات على روسيا و إرغام أوروبا عى تبني تلك العقوبات و توسيعها يُعتبر عملية إعادة إحتواء امريكي لأوروبا أي الإحتواء الثالث.

(أنظر كتابنا الإقتصاد السياسي لصعود و تهالك النيولبرالية:الولايات المتحدة مثالاً ص ص 10-30)

الإحتواء الرابع لأوروبا :

إعتادت فرنسا محاولة الخروج على الناتو سواء على يد الجنرال ديغول حيث ما لبثت فرنسا أن عادت للحظيرة، و انتهاء بثرثرة ماكرون، و لكن في النهاية بقيت فرنسا في الحظيرة.

أما الإحتواء الرابع فكان بمقاصد متعددة، إنما تلتقي جيمعاً إلى التوافق على ما فرضه ترامب.

ففي حين تواصل معظم الأنظمة الحاكمة في الاتحاد الأوروبي تخوفها من هجوم روسيا ضد بقية أوروبا، فتواصل تطبيق العقوبات الأمريكية ضد روسيا و توافق على زيادة إنخراطها في تمويل الناتو، تهدف الولايات المتحدة من الناتو مواصلة قيادتها له ولكن بعد تجنيد إمكانات مالية و تسليحية أعلى و بالتالي جاهزية أكثر كفاءة للعدوان و تقليصا لما تنفقه أمريكا على الناتو. و ملخص ذلك إعادة أوروبا تحت جناح أمريكا.

يعيدنا هذا الحدث إلى السؤال:

من الذي يقرر السياسة الكبرى الأمريكية و ليس التفاصيل؟

قد يساعد في الإجابة توافق سياسة ترامب مع سياسة بايدن مما يعني أن لا هذا و لا ذاك هو الذي يضع الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية.

فرغم مزاعم ترامب أنه يهدف تحقيق السلام في العالم، إلا أنه يقوم عمليا، بالحرب العدوانية ليصل إلى سلام إستسلامي و ذلك في ثلاث محطات:

· مواصلة دعم العدوان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني و خاصة في غزة، و العدوان ضد لبنان و اليمن،

· مواصلة العقوبات التي فرضتها إدارة بايدن ضد روسيا و استمرار الحرب في أوكرانيا،

· و مواصلة إستعداء الصين الشعبية سواء بحرب الجمارك أو التهيؤ لعدوان عسكري ضد الصين.

باختصار، لا فرق جوهري بين هذه الإدارة أو تلك و النتيجة، تقوية الناتو لتواصل الإمبريالية بقيادة أمريكا السيطرة على العالم و نهبه الأمر الذي لن يتوقف ما لم تُهزم الإمبريالية، بل الرأسمالية عموماً، بغض النظر إن كان ذلك بالسبق الصيني إقتصادياً، أو بعد عدوان إمبريالي مهزوم ضد الصين و حلفائها.

د. عادل سمارة

عادل سمارة، مواليد 1944، مقيم في رام الله، في الضفة الغربية المحتلة. أنهى رسالة الماجستير بجامعة لندن، ورسالة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي والتنمية في إكستر في بريطانيا
من مؤلفاته بالعربية: الاقتصاد السياسي لصعود وتهالك النيولبرالية: الولايات المتحدة مثالا 2025  غزة...لا معتصماه، هكذا وصلنا للمساكنة 2024  العروبة في مواجهة الإمبريالية، الأنظمة، والاستشراق الإرهابي 2024 هزائم منتصرة وانتصارات مهزومة 2019 – التعاونيات/الحماية الشعبية إصلاح أم تقويض للرأسمالية 2018 المثقف المشتبك والعمليات الفردية 2017 – ظلال يهو-صهيو تروتسكية في المحافظية الجديدة 2015 - تأنيث المرأة بين الفهم والإلغاء 2011. - التطبيع يسري في دمك 2011.  - الاقتصاد السياسي للصهيونية 2008. - دفاعاً عن دولة الوحدة: إفلاس الدولة القطرية. رد على محمد جابر الانصاري. منشوات دار الكنوز الادبية، بيروت 2003. ومركز المشرق/العامل 2004.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *