السيناريوهات المقبلة للفلسطينيين: بين الاستعمار القديم والاستعمار المقنّع


رانية مرجية*
رغم هول المجازر اليومية في غزة، ورغم أن فلسطين لا تزال تسيل من خاصرتها دماء الأطفال والشيوخ والنساء، يقف العالم متفرجاً، يعقد مؤتمرات يؤجلها، ويصوغ بياناته بلغة رمادية لا تُسمن ولا تُغني عن جوع. أما نحن، الفلسطينيين، فما زلنا في قلب العاصفة، نحمل السؤال ذاته منذ أكثر من سبعين عاماً: ماذا ينتظرنا؟
لكن الجواب هذه المرّة لا يأتينا من مراكز القرار الدولية فقط، بل من تحالفات جديدة تتشكّل، وأقنعة تتساقط عن وجوه كانت تدّعي التضامن. وهنا تبدأ السيناريوهات، تتعدد، وتتشظى، لكنها كلها تسير نحو مفترق مصيري، بل وجودي.
السيناريو الأول: تثبيت الاحتلال وتفكيك الهوية
مع استمرار الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل، ومع تساهل بعض العواصم الغربية والعربية، لا يبدو أن الاحتلال ينوي التراجع. على العكس، هو اليوم في طور استكمال مشروعه الاستيطاني، لا في الضفة الغربية فحسب، بل في الوعي الفلسطيني أيضاً. التهجير في غزة لا يُقرأ بمعزل عن سياسات تحويل الفلسطيني إلى “مشكلة لوجستية”، لا إلى شعب له تاريخ وجغرافيا.
في هذا السيناريو، يتم فرض “حل اقتصادي” عبر مساعدات مشروطة، تقايض الحياة بالكرامة، وتُحوّل الفلسطيني إلى متسوّل سياسي، لا مقاوم. يتم تفريغ المشروع الوطني من مضمونه، وتحويله إلى مجرّد نزاع على فتات السلطة.
السيناريو الثاني: انفجار داخلي يُعيد صياغة الذات
الشارع الفلسطيني اليوم ليس كما كان. لم يعد يقبل أن تُدار حياته بين فصيلين يتقاسمان الوطن كما تتقاسم القوى العظمى النفوذ. حركة “بدنا نعيش” ليست مجرد صرخة ضد الغلاء، بل بداية لإعادة تعريف القيادة، والشرعية، والوطن. وهذا الانفجار المتوقع داخليًا قد يكون خطيرًا، لكنه أيضًا فرصة تاريخية نادرة لتجديد النسيج السياسي الفلسطيني، من القاعدة حتى الرأس.
لكن، هذا الخيار محفوف بالمخاطر، لأن السلطة القائمة، وكذلك حماس، لم تُظهر استعدادًا حقيقيًا للتنازل أو الإصغاء، بل ردّت بالقمع والتخوين. ومع ذلك، فإن هذا الخيار – رغم مرارته – قد يكون الأصدق، لأنه يولد من رحم المعاناة، لا من مؤتمرات نيويورك أو بيانات جامعة الدول العربية.
السيناريو الثالث: عودة القضية للواجهة بشروط دولية
الاعترافات الرمزية بدولة فلسطين من إيرلندا، النرويج، إسبانيا، وربما فرنسا لاحقًا، هي إشارات جيّدة لكنها ليست كافية. فالمجتمع الدولي – كما نعرفه – لا يتحرك إلا حين تتقاطع مصالحه مع آلامنا. ولا ننسى أن قيادات الدول العربية التي تلبس عباءة “الدعم” ليست سوى امتداد لمنظومة استعمارية من نوع آخر.
هؤلاء الحكّام لا يدعموننا لوجه الله أو نصرة للحق، بل لأنهم يخشون عدوى الغضب من شعوبهم. هم يسيطرون على الضعفاء، ويتداولون المصالح مع الأقوياء. دينهم ليس الإسلام أو المسيحية أو أي منظومة أخلاقية، بل الفائدة – المادية والمعنوية – في المقام الأول. وهم، إن اضطروا، لن يترددوا في بيع القدس نفسها مقابل ضمان عروشهم.
السيناريو الرابع: الاستمرار في النضال… ولو وحدنا
ربما يكون هذا السيناريو هو الأكثر ألمًا والأكثر صدقًا: أن نستمر في المقاومة رغم كل شيء. أن نعيد توحيد شعبنا عبر الحصار، لا عبر المؤتمرات. أن نُربّي أطفالنا على سؤال: لماذا نُقتل؟ لا على إجابة: من قتلنا؟
نعم، قد نكون وحدنا، لكننا لسنا بلا كرامة. فغزة – بكل مأساتها – أثبتت أن الصمود فعل جماعي، وأن من يعيش تحت القصف لا يخشى فقدان الشرعية. الشرعية تولد من الدم، لا من التفاوض.
ختامًا:
لا أحد ينتظر الفلسطينيين. نحن من ننتظر أنفسنا. إن لم نملك الجرأة على تمزيق الأقنعة، وعلى تسمية الأشياء بأسمائها، فسنظل ننتقل من نكبة إلى نكسة، ومن هزيمة إلى هدنة.
لكن، ما زال هناك أمل. أمل في جيل يرى، يفكر، ولا ينسى. أمل في حبر الصحف أن يظل أصدق من بيانات المؤتمرات.
وما دام هذا الأمل حيًّا، فسنظل نكتب، ونقاوم، ونحلم.
*كاتبة فلسطينية من الرملة