سفر الرؤيا… صرخة الغيب في زمن الوحش المعولم


رانية مرجية*
في زمن انقلبت فيه المعايير، و ساد فيه التواطؤ حتى في أبسط تفاصيل الحياة، أجد نفسي أعود مرارًا وتكرارًا إلى نصٍ يُقرأ لا بالحواس بل بالوجدان المرتجف… نصٍ مكتوب بحبر الدم و بلغة الحلم المشفّر. إنه سفر الرؤيا، هذا السفر الذي يُخيف البعض ويربك آخرين، لكنه عندي، كإبنة لهذا الشرق المجروح، بمثابة ترنيمة نبوية تنبض بالحقيقة المقمعة.
كيف لا، ونحن نعيش اليوم وسط عالم تتهاوى فيه القيم كما تتساقط أوراق الخريف اليابسة في أرض عطشى؟ كيف لا و نحن نرى الوحش – لا وحشاً واحداً بل وحوشاً عديدة – تنهش في جسد الإنسان و الإنسانية، بينما تُفرَض علينا الأوهام كأنها شرائع مقدسة، و يُطلب منّا أن نسجد لتمثال العجل الجديد: المال، النفوذ، الإعلام، و الهيمنة؟
سفر الرؤيا ليس سفر نهاية فقط، بل سفر تعرية، سفر مقاومة. هو مرآة يمدّها النص الإلهي في وجه العالم المزوّر. هو رُمحٌ في خاصرة الزيف، و جرسٌ يدقّ في عمق الليل ليوقظ الضمير.
الختم الأول: فارس أبيض أم استعمار أبيض؟
“وإذا فرس أبيض، و الجالس عليه معه قوس، وقد أُعطي إكليلاً، فخرج غالباً ولكي يغلب”.
من هو هذا الفارس؟ أهو المخلّص أم المستعمِر الذي لبس ثوب الحمل وهو في جوهره ذئب؟ ألا نرى اليوم كمّاً هائلاً من التدخلات الدولية تُفرض على الشعوب باسم الديمقراطية، و هي في الحقيقة ليست سوى أدوات لإدامة السيطرة و الهيمنة؟ إن هذا الفارس الأبيض ما زال يمتطي جواده، لكن قوسه الآن يُصوّب عبر أقمار صناعية، و منصات إعلام، و بنوك عالمية، و يطلق سهامه باتجاه الشعوب المقهورة، من بغداد إلى دمشق، ومن القدس إلى رفح.
الفارس الأحمر: الدم على ضفاف المتوسط
“فخرج فرس آخر، أحمر، و للجالس عليه أُعطي أن ينزع السلام من الأرض”.
هل هناك سلام منقوص أكثر مما نراه اليوم في وطننا؟ كم من الدماء سالت، و كم من القلوب تمزقت، و كم من الأمهات كفنّ فلذات أكبادهنّ دون أن يُسمح لهنّ حتى بدمعة!
في غزة، كل يوم يولد من رحم المجزرة. في رفح، تسيل الرؤيا كنهر دم، يكتبها الأطفال على الجدران بالفحم و الرماد. و في الضفة، يسير الفارس الأحمر مطمئناً، تحرسه تواقيع اتفاقيات خادعة و مواقف دولية مخجلة.
المرأة المتسربلة بالشمس… فلسطين؟
و في وسط هذه الفصول العنيفة من رؤيا يوحنا، تطل علينا صورة “المرأة المتسربلة بالشمس، و القمر تحت قدميها، و على رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً”. هذه المرأة التي تصرخ من ألم المخاض، و تُطارد من التنين، أما تذكّرنا بأرضنا – فلسطين؟ ألا تذكّرنا بأمهات الشهداء، و بكل امرأة أنجبت حلماً ثم حاصرته الجرافات، أو صادرت أمله الحواجز؟
إن هذه المرأة لا تموت. هي المخاض نفسه، و هي الثورة، و هي المظلومة التي لا تقبل إلا أن تكون منتصرة في نهاية المطاف. و حتى إن طاردها التنين، فإن للسماء مأوى يُخبئها، و إن اشتد الليل، فإن الشمس لن تخلع ثوبها عنها.
بابل العظيمة… المدينة الساقطة فينا
“و سمعت صوتًا آخر من السماء قائلاً: اخرُجوا منها يا شعبي، لئلا تشتركوا في خطاياها”.
بابل ليست مدينة واحدة. بابل اليوم تتجسد في العواصم المذهبة والمضللة، في الأنظمة التي باعت الإنسان مقابل صفقة، و في منابر تُستَخدم لتمرير الكذب بآيات من الكتاب.
كم من بابل اليوم ما زالت تقايض دم الأبرياء بنفط، و حق الشعوب بقرار أممي مشوّه؟ بابل العظيمة سقطت، نعم، لكنها تقوم كل يوم بلباس جديد، و عطورها الآن ليست عطر المرّ بل عطر التجميل السياسي.
بين الوحش و الحمل… الحسم الروحي
في قلب سفر الرؤيا، لا يبقى الصراع بين أنظمة، بل يتحوّل إلى معركة روحية. الوحش الذي صعد من البحر، بأبواقه السبعة، يشبه هذا النظام العالمي الجديد، حيث الحقيقة تُزيف، و الحق يُحاصر، و الناس تُستعبَد ليس بالسلاسل بل بالإعلانات، و بالهواتف الذكية، و بأجندات لا يقرؤها أحد لكنها تسوق الجميع نحو السجود للصورة.
لكن ما يُدهشني في الرؤيا ليس اتساع الجحيم، بل بقاء الحمل واقفًا. “و رأيت خروفًا قائمًا كأنه مذبوح”، هذا الخروف لا يموت، رغم أنه لا يحارب بالسيف بل بالصدق. هو رمز الأمل الصامت، الصمود غير الدموي، الحضور الإلهي في صمت المظلومين.
خاتمة: “وها أنا آتي سريعًا”
أجمل ما في سفر الرؤيا أنه لا يترك القارئ في ظلام النهايات. بل يختمه بوعد:
“و ها أنا آتي سريعًا… طوبى لمن يغسلون ثيابهم، ليكون لهم سلطان على شجرة الحياة…”
و كأن الرؤيا تقول لنا: لا تستسلموا. هناك قيامة في الأفق. و لكن القيامة لا تُعطى مجانًا. لا تأتي إلا لمن ثبتوا، لمن رفضوا أن يسجدوا للوحش، حتى و إن كلفهم ذلك حياتهم.
أنا لا أقرأ سفر الرؤيا لأتنبأ بالمستقبل، بل لأواجه الحاضر. لأقول: كفى. لأقول: نحن نعرف الوحش، و نعرف الحمل. و قد اخترنا أن نكون من أتباع الحمل، لا لأننا ضعفاء، بل لأننا أقوياء بما يكفي لنحمل صليبنا ونقاوم.
*كاتبة و صحافية فلسطينية من الرملة