تركي عامر… شاعر الجليل الذي لا يعود إلى المرعى


رانية مرجية*
في الجليل، حيث تتدلّى الغيوم فوق أشجار البلوط، و تتعلم الكلمات أن تنبت من شقوق الحجارة، وُلد تركي حسن عامر. لم يكن ميلاده مجرد لحظة زمنية في 29 كانون الأول 1954، بل كان، كما أراه الآن، ولادة صوتٍ سيحمل وجع الأرض، و نُبلَ الإنسان، و هموم اللغة، ليخطها شعرًا يتجاوز التصنيف، و يخترق التوقع.
تركي عامر ليس مجرد شاعر فلسطيني من الداخل، بل هو جزء من نسيج روحي عميق، نسجهُ بأصابعه منذ مطلع السبعينات، حين خط أولى قصائده في مجلة “الدروز”، و حتى اليوم، و هو يُمسك بالقلم كمن يمسك بمفتاح قديم، يفتح به أبوابًا منسية في أرواحنا، في ذاكرتنا، و في الخرائط الممحوة.
من الخدمة الاجتماعية إلى الخدمة الشعرية
درس عامر الخدمة الاجتماعية في جامعة حيفا، و نال منها شهادة أكاديمية عام 1977. و منذ ذلك الوقت، لم يتوقف عن الإصغاء للناس، للذين يسكنون الهامش، للجروح المطموسة، للذين لا صوت لهم. كان أديبًا ومربيًا ومعلمًا، لكنّ الشعر ظلّ جوهره الأعمق، و دربه الأوضح.
في قصائده، لا تجد شاعرًا نخبويًا يكتب من علٍ، بل تجد إنسانًا مشبعًا بالحياة، يُصغي، يحاور، و يكتب كمن يمسح دمعة عن خدّ طفل في قرية مهمشة، أو يربّت على كتف عجوز تروي حكايا النكبة بأصابع مرتعشة.
“لن أعود إلى المرعى”… حين تصبح القصيدة رفضًا وجوديًا
في ديوانه “لن أعود إلى المرعى”، الصادر عام 2004، يبلغ تركي عامر ذروة تمرده الشعري. لم يكن العنوان مجرّد استعارة، بل كان صرخة واضحة ضد الانصياع، ضد العودة إلى القطيع، إلى الدوائر التي تُخدّر الروح وتُؤنسن السقف دون تحرير الأرض.
في هذا العمل، نقرأ شاعراً يُمزج بين الغنائية الحادة، و التأملات الفلسفية، و اللغة التي تنحت حروفها من صخر الجليل. يقول في إحدى قصائد الديوان:
“أنا لا أُجيد الركض خلفَ مرعاهمْ
و لا أُجيد الصمتَ عندَ مواسمِ الذبحِ
لستُ حملًا… و لن أعودَ إلى سكينهمْ”
هكذا ببساطة، يكتب عامر قصيدته – ليس من برج عاجي – بل من حقل، من زقاق، من مقهى شعبي، من حجر في عين قانا، من عَرق الأرض في الرامة، و في كلّ مرة، يُخرج لنا وردة، و أحيانًا خنجراً.
الثعلب الشعري… كما يسميه من قرأه بعمق
لقّبه بعض النقاد بـ”الثعلب الشعري”، لا لمكرٍ سلبي، بل لقدرته المدهشة على المناورة اللغوية، على التسلل بين شكل و آخر، و على أن يكتب العموديّ، و التفعيلة، و النثر، و العامية، بل و حتى بالإنجليزية و العبرية، دون أن يفقد جوهره الفلسطيني المتجذر.
تراه يكتب العامية بحميمية، ثم ينتقل إلى قصيدة نثرية تتوهّج بالغضب الصوفي، و كأن محمود درويش التقى بنزار قباني في حوارٍ داخل رأسه.
الكتابة في الداخل… خيار وجودي لا أدبي فقط
تركي عامر ليس شاعرًا يكتب من الداخل الفلسطيني، بل هو “كِتاب الداخل” نفسه. هو مَن اختار أن يواجه المؤسسة، أن يرفض التجنيد، و أن يفقد وظيفته بسبب قناعاته، لا خوفًا و لا هروبًا، بل احترامًا لدم من سبقوه، و لأرض لم تتوقف يومًا عن الولادة.
في كتاباته، نجد أثر الكنيسة كما نجد أثر الخيمة. نجد القدس و حيفا، كما نجد دمشق و بغداد. فلسطين لديه ليست جغرافيا فقط، بل حالة وجودية، وجدانية، لغوية، و ميثولوجية أيضًا. وكأنه يكتبها بأسطورة جديدة… أسطورة الغائب الحاضر، الذي لن يعود إلى المرعى، لكنه لن يترك القطيع بلا أغنية.
خاتمة من حبر وحنين
تركي عامر، في صمته، أشد ضجيجًا من كثيرين. في قصيدته، رقة وسيف، زيت و زيتون، و أمّ لم تجد بعد ابنها الشهيد. هو ذاكرة تمشي على قدمين، و وجع ناطق، و لغة تتلوّن بالشمس و الملح.
أكتب عنه الآن، لأنني أومن أن شعراء مثله لا يُقرأون في دفاتر العتمة، بل يُجبَر الضوء على أن يقرأهم. و لأنه، حين يغيب، سيظل هناك ديوان في الرف، ينتظر من يفتحه، ليجد فيه فلسطين وهي تبتسم، رغم كل ما حدث… و تقول:
“ما دام تركي كتبني… لن أموت.
*كاتبة اعلامية